الثلاثاء 3 يونيو 2025
مادة إعلانية

يلا سوريا – بدر المنلا

لا زلت لا أصدق أنني أتنفس الهواء دون أن أسمع صوت هروانة أو صراخ سجان.”
هكذا بدأ وسيم عامر الطباع شهادته لاكثر 4 سنوات قضاها متنقلاً بين أقبية أجهزة المخابرات السورية وسجن صيدنايا الأحمر، حيث التعذيب ليس وسيلة للحصول على اعتراف، بل هدف بحد ذاته، والنجاة لا تُعد احتمالاً… بل استثناءً.

البداية في حمص

في 23 / 9 / 2020، اعتقل وسيم من قبل دورية تابعة لفرع الأمن العسكري في مدينة حمص، نقل فوراً إلى مقر فرع الأمن العسكري في حمص، وهناك بدأت المأساة:
“بمجرد دخولي، انهالوا عليّ بالشتائم والضرب المبرّح، استمروا حتى سال دمي، لم يكن هناك أي تحقيق، تم تجريدي من ملابسي بالكامل وتفتيشي بطريقة مهينة، ثم رموا عليّ ما تبقى من الثياب وزجّوني في المهجع”.

في المهجع، كان الصمت إجبارياً، لا يسمح بالكلام، وسيم أمضى 19 يوماً دون أن يستدعى إلى التحقيق، كان من المعروف ان المعتقلين الفارّين من الجيش يُحوّلون إلى قطعهم العسكرية خلال أسبوع أو عشرة أيام، لكنه بقي بانتظار مصير مجهول.

خلال تلك الفترة، صدر “عفو رئاسي” عن الفارّين من الخدمة العسكرية، لكن وسيم يعلق ساخراً:
“العفو كان إعلامياً فقط… لم يُفرج عن أحد.”

عندما اقتيد أخيراً إلى التحقيق، فوجئ بكلمات المحقق:
“أنا لا أريدك لأنك فارّ، أريدك لأنك كنت في حمص القديمة أثناء الحصار.”
وسيم لم يُنكر وجوده في حمص خلال فترة الحصار، لكنه أكد أنه خرج إلى مركز التسوية في مدرسة الأندلس، وسُوّي وضعه والتحق بالجيش رسمياً.

لكن المحقق لم يكن يسعى لسماع الحقيقة، سلّمه ورقة جاهزة، تطلب منه فقط التوقيع: تتضمن (خرجت في مظاهرات ضد الدولة، نفذت أعمال تخريب، شاركت في الهجوم على حي الزهراء ذا الاغلبية العلوية، قتلت وتسببت بمقتل 400 عنصر أمن، كنت على حواجز الثوار وتعاونت مع مسلحين.
رفض وسيم التوقيع، لم يحمل السلاح يوماً، وعندها بدأت حفلة التعذيب.
“مددت على بطني، عارياً، مكبلاً، رأسي في سلة قمامة، سكبوا الماء المغلي على ظهري… وكانوا يضحكون كلما صرخت، فقدت الوعي، وعندما استيقظت، كنت في المهجع مجدداً”.

لاحقاً، تم استدعاؤه مرة أخرى دون أي أسئلة، شُبّح بطريقة “اليدان خلف الظهر ومربوطتان بالحبل من الأعلى، حتى تُخلع الكتفين.
“استيقظت في المهجع، أكتافي مخلوعتان للخلف، المعتقلون ساعدوني بإعادتهما لمكانهما،
المفاجأة؟ رأيت آثار البصمات على أصابعي. وقّعت على الورقة تحت التعذيب وأنا مغمى علي”.

من حمص إلى دمشق: محطات الألم المتتالية

بعد فترة وجيزة، نُقل وسيم إلى سجن البالونة المركزي، حيث بقي أربعة أيام فقط (فترة ايداع)، ثم بدأ الطريق الطويل إلى العاصمة دمشق، نُقل إلى: سجن القانون (الشرطة العسكرية) محطة انتظار قصيرة، ثم فرع 48 في دمشق نقطة تحول قاسية بعدها فرع 235 (فرع فلسطين).

في فرع 48، كان أول استقبال له في “البراد”، وهو غرفة باردة جدًا يُحتجز فيها المعتقلون: “ضربونا بأنبوب بلاستيكي أخضر يسمونه (الأخضر الإبراهيمي)، لا طعام لمدة يوم ونصف. ثم حوّلوني إلى فرع فلسطين.

فرع فلسطين: اسم يُرادف الرعب

أمضى وسيم ما يقارب شهرين في فرع فلسطين، أحد أسوأ الفروع الأمنية السورية سمعة، الحياة هناك لا يمكن أن توصف بالحياه،
“كنا 115 معتقلًا في مهجع واحد، لا يمكننا النوم جميعاً في آنٍ واحد، كنا ننام بالتناوب، ويتناوب عشرة أشخاص ليجلسون فوق سطح الحمام”.
الغذاء كان معدومًا تقريبًا:
“كنا نحصل على نصف كوب شاي من الأرز أو البرغل يوميًا.”

كان في الزنزانة طفلان من ريف حمص، ورجل جزائري معتقل منذ عشرة أعوام، وكبار سن، ونساء تُسمع أصوات صراخهن أثناء التعذيب خلف الجدران.
“أحيانًا كانوا يطلبون من رئيس الزنزانة أن يختار واحدًا للتعذيب. يقولون: (بدنا واحد نتسلى فيه).”
في البداية، كان بعض المعتقلين يتطوع للخروج، ثم صارت الاختيارات عشوائية أو دورية، دون أي تحقيق… فقط تعذيب للترهيب والمتعة.

بعد شهرين، نُقل وسيم إلى فرع 277 في المزة وهو مستودعات تحت الأرض، ثم، بعد أيام، جاء الاسم الذي يرتعد له كل معتقل: صيدنايا.
“وُضعنا في سيارة تبريد، مكبلين بالجنازير، علمونا جملتين فقط: (أمرك سيدي) و(حاضر سيدي)،رأسك إلى الأسفل بين ركبتيك، يداك على عينيك، ممنوع النظر لأي سجان، إذا نظرت، تقتل”.

صيدنايا الأحمر: الجحيم المنظّم

على أبواب صيدنايا، كان الاستقبال مشهداً مرعباً بحد ذاته، رُكنت سيارة الشحن الباردة التي تقلّ المعتقلين، وبدأ السجّانون بالضرب على جدرانها المعدنية من الخارج، يرافقها سيل من الشتائم الطائفية والتهديدات بالقتل.

“أمرونا بالركض نحو (الهروانة) الموضوعة على الأرض، أي نقطة معيّنة علينا اللحاق بها بينما تُنهال علينا الضربات، ثم اقتادونا إلى غرفة التفتيش… خمس عدّات فقط لنكون عراة تماماً داخل مربع لا يتجاوز طوله 30 سم، ورؤوسنا للأسفل.”

في صيدنايا، تُلغى صفة الإنسان، لا اسم، لا وجه، لا صوت، فقط رقم، أو لقب يُطلقه السجّانون حسب مزاجهم.

حفلة الاستقبال: “فنجان القهوة” في الشيراتون

هكذا يسخر السجّانون من أكثر طقوس التعذيب وحشية في سجون النظام، “فنجان القهوة بالشيراتون” هو الاسم الذي أطلقوه على جلسة الاستقبال الأولى:
“200 ضربة بالكبل وأنت في الدولاب، القفز فوق أجسادنا، والركل، والشتائم. كانوا يضحكون وهم يقولون: استمتعوا بالقهوة، وبعدها، أمرونا بالقفز في المكان عراة تماماً”.

يُرمى المعتقلون بعدها في الزنازين الانفرادية: مساحة لا تتجاوز مترين بمترين، تضم ستة معتقلين دفعة واحدة، لا حمام، لا ضوء، قذارة منتشرة بكل مكان.
“تسعة أيام في المنفردة، عراة، الطعام مرة واحدة في اليوم، يفتح الباب لثوان، إن لم تأخذ قدر الطعام سريعاً يسحبك السجّان للخارج ويضربك حتى فقدان الوعي.”
الماء يُفتح لدقيقة ونصف فقط يومياً، بعد ذلك، تُوزّع بدلات بالية مستعملة على المعتقلين، ويُفرزون إلى المهاجع.

الحياة داخل المهجع رقم (8)

وسيم وُضع في الزنزانة رقم 8، حيث سيمضي ثلاث سنوات كاملة.

المهجع لا تتجاوز مساحته ستة أمتار مربعة، لكن كان يضم 35 معتقلًا. لكل واحد بلاطة واحدة فقط لينام فوقها. إن تحرّك في نومه اصطدم بجسد آخر.
“الأكل كان رغيف خبز واحد في اليوم، أو ما يعادل كأس شاي من البرغل أو الرز. لا أكثر.”
لا حاجة إلى وجود تهمة. لا محكمة. لا تحقيق. فقط التعذيب، كطقس يومي.
“يُفتح باب المهجع، يختار السجّان معتقلًا عشوائياً، يأخذه للتعذيب… لمجرد التعذيب، لا أسئلة، لا اتهامات، فقط للتسلية.”

ورغم الظلام والجوع، كانت هناك لحظات نادرة تمنح المعتقلين جرعة أمل، بعض المعتقلين كانوا يحفظون القرآن الكريم، ويقومون بتعليمه لمن حولهم سراً “كنا نكتب على لوح صابون ونتناقله، في أقصى درجات السرية”.
“حفظت 10 أجزاء من القرآن الكريم، ذلك ما كان يصبرنا، وبعض القصص التي كان يرويها إخوة عن النجاة والصبر”.

الزيارات: دقائق بثمن خيالي

استطاع أهل وسيم زيارته ثماني مرات خلال السنوات الثلاث، لكن بثمن باهظ، كل زيارة كانت تحتاج مبالغ خيالية تُدفع لضباط وسماسرة، واللقاء لا يتجاوز الدقيقتين.
“كانوا يسمحون لأهلي بجلب الطعام والملابس، لكن السجّانين يسرقون كل شيء، ذات مرة، سلّمني السجّان فردة واحدة فقط من الجوارب، وقال لي ساخرًا: (أهلك فقراء، ما قدروا يجيبوا غير هالجرابة).”

اللحظات الأخيرة: صمت ما قبل العاصفة

في الايام الاخيرة من وجوده في صيدنايا، لاحظ وسيم تغيراً في حركة السجّانين، ازدادت الدوريات، وتضاعف التعذيب.
“لم نكن نعلم أي شيء عمّا يحدث خارج السجن، لا عن تحرير حلب، ولا حماه، ولا أي منطقة، لكن كان واضحًا أن هناك شيئًا غير طبيعي يجري.”

لحظة التحرير: من الموت إلى الحياة

في إحدى الليالي، استيقظ المعتقلون على أصوات غريبة : اطلاق رصاص، صراخ، رائحة حريق، وتكبير، لم يتجرأ أحد على رفع رأسه، اعتقدوا أن السجّانين يفتعلون حريقًا لتصفية المعتقلين.
“سمعنا صوتًا لم نعهده من قبل، لم يكن لأحد من السجّانين، وقف شخص خارج الباب وصرخ: (هل يوجد أحد هنا؟). بقينا صامتين من الخوف.”
ثم بدأ طرق الأبواب، وارتفعت التكبيرات.
“عندها فهمنا… أو بدأنا نحاول أن نصدق… أنه ليس تعذيبًا هذه المرة. بل تحرير.”

أحد الاشخاص، فتح نافذة باب المهجع:
“كان وجهه نوراً، عينيه تلمعان. قال: (الحمد لله على السلامة. لا تخافوا، أنتم أحرار. الأسد هرب. نحن رجال الجولاني.)”
قام بكسر قفل الباب بإطلاق النار عليه، فتحت الأبواب. المعتقلون أمسكوا أيدي بعضهم، وركضوا دون أن يلتفتوا للخلف.
“خرجنا. رأينا مقاتلين وأسرى سابقين. لم نصدق. حتى الآن”.

النهاية… أم بداية جديدة؟

خرج وسيم من الزنزانة رقم(8)، وقد فقد أكثر من نصف وزنه، أربعة معتقلين من المهجع نفسه قتلوا تحت التعذيب خلال سنوات الاعتقال.
“خرجت جلدي على عظمي. كان لدي كتلة في يدي من التعذيب، والحمد لله أجريت لها عملية.”
بعد كل ما عاشه، يقول:
“نعم، نحن ولدنا من جديد. نحاول أن نعيش، أن ننسى. نحاول أن نتعافى من كل هذه الذكريات. ما يصبرنا أن الله أكرمنا بنصر، ونأمل أن يُنسينا تلك الأيام.”