جدران حمص، من تمجيد الطاغية إلى عبارات الحرية
يلا سوريا – هيا عبد المنان الفاعور
تحررت حمص من قبضة النظام البائد في الثامن من كانون الأول، فسقطت أصنامه من الشوارع قبل أن تسقط من العقول.
أصبح هذا التاريخ نقطة تحوّل كبرى في وعي المدينة وهويتها البصرية فانطلقت بعده مرحلة جديدة، بدأت فيها الجدران تستعيد حريتها، كما استعاد الناس صوتهم المسلوب.
احتُكرت الجدران لسنوات طويلة لصور النظام البائد وشعارات تمجّد الأبدية فلم يكن مسموحًا لأي لون أن يتجاوز حدود المسموح وفرض النظام السابق سطوته على كل مساحة، حتى الجدار لم يُترك بلا رقابة وأصبحت الجداريات الرسمية أداة لترويج السلطة، لا لنبض الناس.
خُنق التعبير في زمن الخوف، فكان كل جدار شاهداً على القمع لا الحرية.
وغُيّبت الوجوه الحقيقية، فأصبح كل جدار يردّد ما تُمليه السلطة، ولم يكن لأحد أن يرسم شيئاً خارج تلك الأطر إلا ويدفع ثمنه اعتقالًا أو تهديدًا.
انبثقت الجداريات بعد التحرير كفعل مقاومة فنية واندفعت الفرق التطوعية إلى الشوارع تحمل الفرشاة بدل الشعارات الجاهزة، وأصبحت الجدران مرآة لكرامة مستعادة واختفت العبارات المعلّبة، وظهرت رسومات تعبّر عن الإنسان، عن الثورة، عن الأحلام المخبّأة خلف الركام.
وتجلّت أولى الرسائل في خريطة سوريا الملوّنة بعلم الثورة، وقد كُتب في وسطها: “سلام عليكم بما صبرتم”، كأنها تقول إن كل ما حصل لم يكن عبثًا، بل ثمرة لصبر طويل وأصبحت الجدران تنطق بما سُكت عنه عقودًا.
عَبّرت جدارية أخرى بكلماتها الشاعرية عن شوقٍ دفين:
“يا حارة العاصي إليك قد انتهى أملي، وأنت المُبتغى والمُنتهى، قلبي يرى المحاسن فيك كلّها، يا حمص يا أم الحجار السود”.
وأصبحت الكلمات بمثابة عهد جديد بين المدينة وأبنائها، بعد زمنٍ طُمست فيه المشاعر تحت أقدام الرعب.
رُسم نسر شامخ إلى جانبه ساعة حمص الجديدة، ودوِّنت عبارة:
“أتظن أنك قد طمست هويتي، ومحوت تاريخي ومعتقداتي؟ عبثًا تحاول، لا فناء لثائر، أنا كالقيامة ذات يوم آت”.
أصبحت الجدران تنطق بثقة، لا بخوف، وتُعلن استمرار الحلم مهما كانت التضحيات.
خُلّدت صورة الشهيد عبد الباسط الساروت في جدارية وبقربها الساعة الجديدة، إلى جانب عبارة:
“شهيدنا لا ما مات”.
أصبحت هذه الصورة مرآة لبطولة تتوارثها الأجيال، ورسالة أن الدم لا يُنسى إذا سُكِب لأجل وطن.
وفي جدارية لافتة، ظهر عنصر من الأمن العام يحتضن طفلًا، لتصبح الصورة رمزًا لتحوّل الدلالات بعد التحرير ولم تعد البزّة العسكرية حصرًا مرادفة للقمع، بل تجرّدت للحظة من سلطتها، لتكشف عن وجه إنساني كان مغيّبًا ورآها الناس مفارقة ناطقة، كأنها تقول إن ما كُبت طويلًا بدأ يظهر حتى من داخل رموز القوة السابقة.
انبثقت من ركام الحصار والدمار فنونٌ تعبّر عن الحياة، بعد أن كانت المدينة تتنفس الخوف فقط.
وأصبحت اليوم تتنفس حرية، كما كُتب على إحدى الجداريات بجانب قيودٍ مكسورة: “سوريا تتنفس حرية.”
لم تكن الجدران يوماً مجرّد إسمنتٍ مطلي، بل كانت وما تزال دفاتر مفتوحة لنبض الناس، بعد التحرير استعادت حمص صوتها، ورسم أبناؤها على حيطانها ما عجزوا عن قوله لسنوات ولكل لون حكاية، ولكل عبارة دمعة وذكرى وأمل وما كُتب على الجدران ليس فنّاً فحسب، بل وثيقة حيّة تُدوّن كيف وُلدت الحرية من رحم الخوف، وكيف نهضت المدينة من بين الركام لتقول للعالم: ما زلنا هنا، وما زال فينا متّسع للحلم.
Facebook
Twitter
YouTube
TikTok
Telegram
Instagram