الجمعة 13 يونيو 2025
مادة إعلانية

يلا سوريا – هيا عبد المنان الفاعور

انتهت الحرب، وتوقفت المدافع، وسقط النظام الذي ظنّ أن الصوت يُدفن تحت الركام، نجت مدن، ونجا شعب، كثيرون حملوا أجسادهم من تحت الردم، ومسحوا الغبار عن وجوههم، وخرجوا ليقولوا “نحن هنا”.

ماذا عن مالم يُرَ؟

ماذا عن أولئك الذين خرجوا من الزنازين بلا صوت، أو من الغارات بأطراف مبتورة، أو من الخيام بقلوب فارغة؟.

الثورة انتصرت، لكن كثيرًا من النفوس انهارت في الطريق.

هذا التقرير ليس عن الشهداء الذين رحلوا، بل عن الأحياء الذين ما زالوا يقاتلون في داخلهم.

عن ثلاث حكايات، تجسد ثلاثة أرواح مكسورة، تنبض اليوم بيننا… تبحث عن شفاء مؤجل، واعتراف طال انتظاره.

“خمس دقائق متأخرة.. وعُمر من الذنب”

فادي نوايا 33 سنة، كان يعمل مسعفًا ميدانيًا، اعتاد حمل الجرحى تحت القصف، واستقبال أشلاء الأطفال، والركض بين الأبنية المنهارة، لكنه في أحد الأيام، وصل متأخرًا إلى بيت أخته، بعد قصف جوي مباشر، فوجدها وزوجها وأطفالها الثلاثة تحت الركام.
لم يتكلم لثلاثة أيام، ثم انهار بشكل كامل، ترك العمل، ولم يعد قادرًا على دخول المستشفيات أو حتى سماع صوت صفارة إسعاف.

يقول صديقه:
“أصبح يكره نفسه، يردّد كل يوم لو وصلت قبل خمس دقائق فقط، لكنت أنقذتهم، يتحدّث إلى صور الأطفال كأنهم ما زالوا أحياء.”

خضع فادي لجلسات علاج نفسي سريرية، لكنه توقف بعد شهر وقال ببساطة: “ما في دوى للذنب.”

ظلٌّ خارج من صيدنايا

اعتُقل علاء نجم 29 سنة في 2012 بسبب مشاركته في مظاهرة طلابية ونُقل إلى سجن صيدنايا، وهناك عاش التعذيب الجسدي والنفسي بشكل يومي من جلسات كهرباء، تجويع، حرمان من الضوء، وعزل دام شهورًا.

وعند خروجه، بدا وكأن الزمن توقف بداخله ولا يتحدث إلا إذا سُئل، ويميل للصمت الطويل وينسى التفاصيل اليومية، ولا يثق بأي أحد.

تقول شقيقته:
“يعاني من نوبات خوف متكررة، خاصة عند استخدام وسائل النقل، ولا يعمل، ولا ينام كما يجب”.

ويرى علاء أن الناس تتهمه بالجنون ويقضي أيامه داخل غرفته، يعيش كأنه لا يريد أن يراه أحد.

من السبورة إلى العزلة

رنا خانطوماني 35 عامًا كانت معلمة أطفال ودرّست مئات الأطفال خلال سنوات الحصار، حتى سقط صاروخ على المدرسة التي تعمل بها عام 2017 وفقدت إخوتها الثلاثة في نفس الشهر، ونزحت إلى دمشق بعد ذلك.

وتحاول رنا استعادة حياتها، لكنها تفشل في كل مرة وعانت من كوابيس متكررة، نوبات فزع، وخوف مرضي من الأصوات العالية.

تقول:
“رغبت في استعادة حياتي كمعلمة، لكن الأصوات المعتادة في الصف باتت تثير داخلي نوبات من البكاء والارتجاف، أصبحت غريبة عن ذاتي.”

طلبت تغيير مهنتها أو العمل بمكان هادئ، قالوا لها: “كلكم هيك… بدنا نحط دكاترة نفسيين لكل البلد؟”
رنا اليوم لا تعمل وتعيش في عزلة، وتحاول الكتابة لتهدئة نفسها.

انتصرنا… لكن بشيءٍ مكسور في داخلنا

انتهت الحرب.. لا قصف اليوم ولا مدن تحترق على الهواء وانتصر الشعب، وسقط النظام الذي دمّر الأرواح قبل البيوت.

انتصرت الثورة التي صمدت رغم القهر والخذلان، وحملت راية الكرامة في وجه آلة القتل.

لكن وسط هذا النصر، بقيت أشياء كثيرة بلا صوت، النفوس التي لم تجد من يضمدها، القلوب التي نجت من الموت، لكنها ما عادت تعرف طعمه، الوجوه التي تبتسم للحرية، وهي تخفي تحتها رعشة لا تهدأ.

الصحة النفسية ليست طرفًا في معركة الحياة بعد الحرب؛ هي معركتنا القادمة، فمن لا يشفي نفسه، قد يعيد إنتاج مأساته من حيث لا يدري.

النصر الحقيقي… هو أن نحيا بسلام، لا أن ننجو فقط.