المزة 86: دروسٌ عملية من حيٍّ حمى سلمه الأهلي بالحوار وحسن الجوار!
في لحظات التحولات الكبرى، كالتي شهدتها سورية قبل حوالي عام، تتكئ المدن والأحياء على خيطٍ دقيق اسمه الثقة، ويبرز دور الأفراد ولجان الأحياء كحارسٍ أول لهذا الخيط.. وما جرى في حي المزة 86 بقلب العاصمة دمشق له قصة جديرة بأن تروى، لأنها تقول ببساطة إنّ الحوار السريع، وكبح الشائعات، وتغليب العقل على الانفعال، قادرةٌ على تحويل ساعات الاضطراب إلى درسٍ في التعافي والسلم الأهلي.
أحمد علي – لجين الخطيب
مع سقوط السلطة السورية نهاية العام الماضي، شهدت بعض أحياء دمشق ارتباكاً أمنياً ومحاولات اعتداء وتهجير طالت سكاناً من خلفيات دينية محددة على أيدي مسلحين مجهولين، وهنا بدت الحاجة ملحّة إلى فعل منظم تقوده لجان الأحياء والأفراد والسلطات معاً، فقد نجحت مبادرات في مناطق، وتعثر غيرها، بينما قدّم حي المزة 86 نموذجاً عملياً لخفض التوتر وحماية الاستقرار في زمن انتقالي شديد الحساسية.
اختلافٌ لا يفسد للودّ قضية: المزة 86 برواية خالد
يُجسّد خالد زلف، ابن حماة والمقيم في المزة 86 منذ نحو سبعة وعشرين عاماً، معنى أن تكون إنساناً أولاً، يصف جو الحي ما بعد سقوط السلطة السابقة بالجيّد، وبأنه لم يواجه فيه شخصياً أي حادثة تعصّب طائفي طوال إقامته، فيما يشير إلى مبادرة إنسانية انطلقت عقب التغيّر السياسي لدعم عائلات من الساحل تضرّرت إثر الأحداث الدامية في آذار/مارس من العام الجاري 2025، وشاركت فيها جميع الفئات على حدّ تعبيره.
يرى خالد أن استقرار المزة 86 يرتكز على تعايشٍ قديمٍ سبق التحوّل السياسي، وعلى دور واضح للشيوخ والوجهاء في الحي بتهدئة النفوس، واحتضان الحالة الصعبة، ويؤكد أن صداقاته تضمّ أناساً من مكوّنات دينية متعدّدة، وأن الاختلاف السياسي لم يفسد روابط المودة، إذ بقيت اللغة اليومية بين الجيران قائمة على الاحترام والنجدة المتبادلة.. «سأقول لكم ما لم يقله غيري، الفقرُ هو الذي جعل الناسَ يلجؤون إلى هذا المكان منذ عقود (كانت المنازل من الخشب في الثمانينيات)، وهو ما يوحِّد أحوالَ الناس هنا ويمنحهم هويةً محدّدة؛ فجميعُهم مغتربون عن أهلهم في المحافظات الأخرى، وبديلُ غيابِ أهلِهم وقراهم ومناطقهم كان جيرانَهم في الحي…».
برأي خالد، كان التعويض النفسي والاجتماعي لأهالي الحي عبر الجوار؛ إذ تعارف الناس وتحابّوا، ونشأت بينهم علاقاتٌ إنسانية تجاوزت الطائفةَ والدينَ والعرق. ويروي خالد قصةً ظلّ أثرها طويلاً في ذاكرته: اختُطف في المرحلة الابتدائية بدافع السرقة لامتلاك عائلته محلاً صغيراً للألبسة. وعند عودته، وجد الجيران ينتظرونه بقلق عند باب البناء. عدّ خالد هذا الموقف لحظة إنسانية مكثفة قالت له إن روابط الحي أعمق من أي تصنيفات، وإن الجيرة قادرة على ترميم الشروخ حين تتسع.
وختم حديثه بالقول إن هذا التنوّع في الحي، والذي تكرّس بصورة متزايدة ما بعد سقوط سلطة الأسد من وجهة نظره؛ حين يُدار بحكمة وبوعي، يتحول إلى مصدر مناعة وقوة للحي، لا إلى سبب هشاشة أو ضعف أو توتر ومشاكل.
وفد الساعات الأولى: حوارٌ قوّض الأرتال العسكرية!
بالتوازي، تحدّث لنا أحد وجهاء حي المزة 86، وهو الشيخ علي محمود علي/أبو أحمد، الذي يسكن الحي منذ أكثر من ثلاثين عاماً عن واقع الحي وما حدث فيه بعد سقوط سلطة الأسد. قال لنا: “إن لحظة الاضطراب الأولى شهدت مظاهرة غير منظمة تأثراً بحادثة الاعتداء على أحد المقامات الدينية الخاصة المرتبطة بالطائفة العلوية في حلب (مقام الحسين بن حمدان الخصيبي)”.
ومع تنامي القلق من تفاقم التوتر والاصطدام مع الأحياء المجاورة، تشكّل خلال ساعات وفد محلي للتواصل المباشر مع الجهات المختصة، وأكّد لنا أن: «الحوار الهادئ وتحديد المطالب بدقة ساهما في تهدئة الأوضاع وانسحاب الأرتال العسكرية من محيط الحي».
بالتوازي، بيّن لنا العضو في لجنة وجهاء الحي أن اللجنة أطلقت مبادرة لتسليم السلاح طوعاً للجهات المعنية حفاظاً على الهدوء ومنع الاحتكاك، وهذه التجربة، بحسب السيد أبو أحمد، أبرزت أن صوت العقل حين يُدعم بخطوات عملية يسبق الانفعالات، وأن المبادرة السريعة من شخصيات مسموعة داخل المجتمع المحلي قادرة على احتواء التوتر قبل تفاقمه.
إدارة الشائعات والخوف
لم تتوقف المهمة عند التواصل الرسمي، فعملت اللجنة وأهالي الحي على ضبط الشائعات، وتوجيه الخطاب العام نحو المسؤولية، مع متابعة مستمرة لمنع تسييس بعض التطورات والتصعيد.
وأمام حالة كهذه، ينبغي القول إن السلم الأهلي تحوّل في حي المزة 86 من شعار عام إلى ممارسة يومية: نبرة في مجلس، منشور مسؤول على وسائل التواصل، ووساطة حكيمة بين طرفين قبل أن يتسع الشرخ.
يَعتبر وجهاء الحي وأهله أن دور الأفراد ولجان الأحياء لا يلغي دور جهاز الدولة أو السلطات؛ بل يُكمله، وأن الشراكة المطلوبة في زمن انتقالي تقوم على سرعة الاستجابة، والحياد، وبناء الثقة بين جميع المكونات الاجتماعية.
فالسلطة تضمن الإطار القانوني، وتؤمّن قنوات تواصل شفافة، وتدعم مبادرات الوساطة المدنية، فيما يوفر المجتمع المحلي شبكة إنذار مبكر للتوترات، وخبرات ميدانية دقيقة بطبيعة الحي وخصوصياته.
ويتطلب هذا التلاقي تدريباً للميسّرين المحليين على أدوات حل النزاعات، ومسارات واضحة لتوثيق الانتهاكات الفردية أياً كان مرتكبها، وإجراءات حماية للشهود، إضافةً إلى برامج خدمة مجتمعية تعيد تعريف «القوة» باعتبارها مسؤولية عامة لا غلبة.
وكل ذلك يرسّخ فكرة المواطنة الجامعة التي لا تُختزل في الانتماءات الضيقة ولا تتجاهلها، بل تنظمها ضمن عقد اجتماعي جديد.
أن نهدأ، أن نصغي، أن نمد اليد للآخر..
لا يكتمل السلم الأهلي بلا قواعد واضحة وفق من تحدثنا معهم. فالمطلوب تشريعات انتقالية تُجرّم التحريض والكراهية، وتُسرّع آليات التقاضي، وتضمن العدالة بعيداً عن العقاب الجمعي، والعدالة هنا ليست انتقاماً، بل صونٌ للحق العام وحمايةٌ لحقوق الأفراد، مع مساحات للعدالة التصالحية حيثما أمكن، توازناً بين الذاكرة والقدرة على العيش معاً.
كما أن الشفافية في إعلان الإجراءات، ونشر تقارير دورية عن الاستجابة للشكاوى، يعزّزان الثقة ويحدّان من الفراغ الذي تتغذى منه الشائعة.
ختاماً، تعكس صورة المزة 86 اليوم خلاصةً عن قوة حسن الجوار في حل المشكلات وردم الهوة الناشئة بفعل الهزات السياسية، لكن الطريق إلى الاستقرار يبدأ من الأسرة ومن البيت وفق خالد ومن صوت الحكمة والعقل في الحي وفق رأي الشيخ أبو أحمد.
وبالمجمل، لا تُصنع الطمأنينة بقرار واحد في المراحل الانتقالية والحساسة كالتي تشهدها البلاد الآن، بل بآلاف القرارات الصغيرة التي يتخذها الناس كل يوم: أن نهدأ، أن نصغي، أن نمد اليد للآخر قبل أن ترتفع الأصوات.. فهكذا يُصان السلم الأهلي، وهكذا يُكتب مستقبلٌ أرحب لسورية وأحيائها.
السلم الأهلي تحوّل في حي المزة 86 من شعار عام إلى ممارسة يومية
هذا التقرير أعدّه الصحفي أحمد علي والصحفية لجين الخطيب ضمن مشروع ينفذه المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، بدعم من منظمة اليونيسكو وبإشراف الأستاذة ميس قات، وهو يعبّر عن رأي كاتبه/كاتبته فقط
designations employed and the presentation of material throughout this [publication/book/report/article/video] do not imply the expression of any opinion whatsoever on the part of UNESCO concerning the legal status of any country, territory, city or area or of its authorities, or concerning the delimitation of its frontiers or boundaries. The author(s) are responsible for the choice and presentation of the facts contained in this document and for the opinions expressed therein, which are not necessarily those of UNESCO and do not commit the Organization. This article was produced with the support of UNESCO/IPDC

Facebook
Twitter
YouTube
TikTok
Telegram
Instagram